Hassan Abdallah
6:00 PM


في أحوال المثقّفين وطقوسهم إغلاق مصطبة الضيعة في شارع الحمرا

رقم العدد: 506



بيروت - محمد الحجيري


لم يكن مقهى «كافيه دو باري» في شارع الحمرا (بيروت) بحاجة إلى إعلان موته وانضمامه الى لائحة المحال التي أصبحت من ضمن أرشيف منطقة رأس بيروت وذاكرته الحافلة بأحداث وشجون يومية، أبطالها نجوم وشعراء وكتاب من هذا الزمان، وهي أشبه بمرآة لسيرة لبنان وتداعياته الكثيرة. هذا المقهى أعلن موته منذ زمن!

«كافي دو باري» الذي وُضعت على بابه عبارة «ملغى» باللغة الإنكليزية منذ بداية العام الجديد، وإن «صمد» لسنوات قليلة بعد إغلاق مقهى «المودكا» ثم «الويمبي»، كان صموده وهمياً، لم يكن ناجماً عن وفرة رواده أو ارتفاع مردوده المالي والاقتصادي بل عن أمر آخر ظل غامضاً وملتبساً منذ ما يقارب العشرين عاماً بالنسبة الى الشعراء كما يقول الشاعر شوقي بزيع الذي واظب على الجلوس فيه مع شعراء آخرين، من بينهم حسن عبد الله وعصام العبد الله وجودت فخر الدين وطارق ناصر الدين، وكتّاب من بينهم الروائية علوية صبح.

كان العابر في شارع الحمرا يلاحظ جلوس «شلّة» المثقفين نفسها يومياً في المكان ذاته وعلى الكراسي ذاتها، ويقول في قرارة ذاته إنهم لا يغادرون المكان البته، كأنه شرفة بيتهم أو كأنهم ضمّنوه واستحلوا زاويته وعلى كل زائر أن يأخذ الأذن بالدخول من نظراتهم. بل ربما يسأل الزائر هؤلاء الشعراء، «هل هي حلقة ذكر يومية؟».

كثيرون يقولون إن رواد «كافيه دو باري» جعلوا من الحمرا بديلاً مدينياً عن ضيعتهم، ومن المقهى ساحتهم. وبزيع نفسه، عدا عن تسميته المقهى عموماً «شرفة المدينة»، أطلق على الـ{كافيه دي باري» لقب «مصطبة الضيعة». وبدا لافتاً أن معظم هؤلاء المثقفين تجمعه ثقافة أشلاء الحنين لبيروت القديمة أو للبلدات الجنوبية. فعلوية صبح تستنبط ألفاظ الجنوب «الغريبة» وحسن العبد الله الذي كان يمضي ساعات النهار في الـ{كافيه دو باري» والليل في مقهى «سيتي كافيه» لا يزال على علاقة وطيدة ببلدته الخيام، وحين استقر في المدينة كتب عن نبع «الدردارة» ديواناً شعرياً يُعتبر الأبرز في حياته. أما بزيع الذي يمضي أيامه في شوارع بيروت فلديه روح الاشتياق الى بلدته الجنوبية وهو يتحدث كثيراً عن حبه لنبتة الدفلى التي تجمع بين أحمر الشفاه ودم الشهدء كما يقول، وحين حاول أن يأتي بها الى شرفة منزله في بيروت لاحظ أنها أبت النموّ على النحو اللازم.

أغلق الـ{كافيه دو باري»، وأفتتحت في المقابل عشرات المقاهي في شارع الحمراء، خصوصاً في السنوات الأخيرة. لكن ما يميّز هذا المقهى أنه في الواجهة، يحمل ذكريات زمن غابر، يقول بزيع، أحد أبرز الذين رثوه: «كان الـ «كافي دو باري» الممر الإجباري اليومي الذي يفصل بين بدايات النهار ونهاياته. وعلى امتداد ساعتين ونصف من الزمن كان الخيال اللمّاح وحده هو ما يمكّن طاحونة الكلام من الدوران. وكانت البديهة السريعة المدعومة بالمعرفة والتمرّس هي ما يحدد مواقع الجلساء وتراتبيّتهم المناسبة. كان الكلام يدور على الشعر كما على الرواية والمسرح والسياسة، وعلى الحب والجنس كما على الزمن وأمراض الكهولة والعقاقير التي تساعد في ترميم الأجساد المتهالكة. وإذا كانت النميمة بأنواعها هي ملح الجلسات والعصب الأهم الذي يمدها بأسباب التجدد وأمصال الضحك فهي لم تكن في أي حال وجهاً من وجوه الشتيمة والبغضاء والحقد الأسود، بل كانت مشروطة دائماً بالحنكة والابتكار والحس الكاريكاتوري».

شيخوخة واضحة

لفظ شارع الحمرا مقهى «كافيه دي باري» الذي افتتحه جو أبيلا عام 1982، ولم يكن يستضيف من الرواد الذين يقصدونه ظهيرة كل يوم سوى أعداد قليلة. بدت شيخوخة المقهى واضحة للعيان أمام كل من يحدق في جدرانه المتآكلة وألوانه الداكنة. شخصياً، لم أستسغ هذا المقهى خصوصاً هندسته، بدا كأنه من زمن مضى. ولم أفكر في الجلوس فيه يوماً، شعرت أنني إذا دخلت سيراقبني المثقفون. وفي المرة الأخيرة التي قصدته فيها، كنت على موعد مع الكاتب العراقي خالد مطلك الذي وجدته مشغولاً بذكرياته مع صديقه رياض قاسم، حينها شعرت بغربة في ذلك المقهى، كأنه غرفة من دون كهرباء، أو حالة من «النشاز»، عتمة بين محال كثيرة بواجهات لامعة ومضيئة تعكس واقع الحداثة.

لفظ الشارع مقهى المثقفين لا يعني أن الشارع انتهى كما يعتقد شعراء كثيرون، لا ينظرون الى تحوّلات الشارع ومحاله الجديدة. عيونهم شاخصة الى الوراء والذكريات والذاكرة دائماً، وهم لم يألفوا الأمكنة الجديدة. فعدا مقاهي النراجيل التي اجتاحت الشارع ولها روادها الكثر من نساء ورجال ومراهقين، تتوافر المطاعم التي تتنوّع بين الجنوب أفريقي (ناندوز) والإيطالي (نابوليتانا) والصيني (شوبستيكس) والأميركي (رودستير) والفرنسي (ليناز) واللبناني طبعاً. من دون أن ننسى مقهى «يونس» الذي يستقطب الفئات الشبابية المثقفة من رسامين وكتاب ومخرجين.

ربما كان بعضهم على حق حين اعتبر أن المقهى في بيروت لم يعد ملتقى المثقفين. فحين أقفل «المودكا» حدث ما يشبه التظاهرة الثقافية دفاعاً عن بقائه في واجهة المدينة موئلاً للذاكرة، لكن صاحبه استسلم لإغراءات الاستهلاك ومحال الألبسة والماركات العالمية. كتب الكثير عن ذلك، وبدا الشاعر بول شاوول كأنه يعيش زمن الشتات، متنقلاً بين مقهى «نجار» الذي أقفل أيضاً، و{ستاربكس» الذي لا يتناسب وثقافة شاوول الذي كان جزءاً أساسياً من مشهد الرصيف في شارع الحمرا قبل أن يستقر في مقهى «لينس».

قبل أن يقفل «الويمبي» كنا عندما ننظر الى واجهته الزجاجية، نشعر كأنه مصاب بداء السرطان وينتظر موته، وهذا ما حصل فعلاً، لكن لم نقرأ مقالات ترثيه باستثناء واحدة للشاعر وديع سعادة ولوحة للفنانة ريم الجندي التي غادرت شارع الحمرا بعد «غزوة 7 ايار».

بالإضافة إلى المقاهي، تحتل النوادي الليلية مكاناً واسعاً في شارع الحمرا ومن بينها: «الريغوستو» و{البارومتر» و{دو براغ» و{جدل بيزنطي»، و{الوليمة». أصبح الشارع ملتقى الشباب الساهر الذي يستمع الى الموسيقى الصاخبة ويشاهد التلفزيون بصمت، مشكلاً ما يشبه الخلطة السحرية. أما الأمكنة الثقافية فلم تفلح في إعادة الاعتبار الى نفسها. «مسرح المدينة» لا يبدو فاعلاً في الوقت الراهن، و»البيت العلماني» «احتضر» قبل أن يبدأ، وذهبت «دار الندوة» مع رياح الحروب على الشرق الأوسط، وهذا لا ينفي المحاولة الثقافية الواضحة في مقهى «ة مربوطة» الذي بات مكاناً للقراءة والندوات، و «مقهى غرافيتي» في شارع المقدسي.

بعد أعوام قليلة سيروي اللبنانيون قصة عن شارع الحمرا الذي شهد في 22 يناير (كانون الثاني) عام 1959 افتتاح أول مقهى رصيف لصاحبه منح الدبغي وهو مقهى «الهورس شو» الذي أصبح نقطة استقطاب الأدباء والمثقفين والسياسيين اللبنانيين والعرب، وتبعه «الاكسبرس» في سنتر صباغ مطلع السبعينات، و{مانهاتن» في سنتر فرح، و{النيغرسكو» و{الستراند» و{الإلدورادو» والـ{كافيه دو باري» و{المودكا» و{الويمبي». وبالعودة الى تاريخه نكتشف أن معالم شارع الحمرا العصرية بدأت تتشكّل اعتباراً من عام 1958 عندما اندلعت الثورة وعمت الاضطرابات في مختلف أرجاء العاصمة باستثناء منطقة الحمرا التي كانت بعيدة عن الالتزامات الحزبية والمصالح السياسية المختلفة، فهجر التجار وسط مدينة بيروت إلى الشارع الذي لا يتجاوز عرضه الـ 15متراً، وراح يزدهر الى أن عاد وسط بيروت ليسرق وهجه بعد الحرب. واليوم إذ نشاهد أن «الهورس شو» أصبح مقهى لشركة عالمية في إشارة إلى علامات التحوّل في المدينة، فإن الشعراء والكتاب الذي يطمحون الى العالمية دائماً يرفضون عولمة المقاهي!


الكافيه دو باري مقفلاً


Read On 0 comments
5:45 PM

السفير:

مهرجان السنديان الثقافي في الملاجة في دورته الثالثة عشرة

29/07/2009

مهرجان السنديان الثقافي في الملاجة في دورته الثالثة عشرة 2009 والذي ستقدم فيه الأعمال الناتجة من ورشة العمل تلك إضافة إلى أعمال أخرى لتنويع البرنامج. وبالاضافة الى الشعراء العرب المشاركين في الورشة سوف يُستضاف شعراء من بريطانيا والدنمارك.
يشارك في الورشة والمهرجان من الشعراء زكريا محمد (فلسطين)، حسن عبد الله (لبنان)، أحمد الشهاوي (مصر)، ظبية خميس (الامارات)، زاهر الغافري (عمان)، عاشور الطويبي (ليبيبا)، جمانة مصطفى (الاردن)، أحمد الملا (السعودية)، رولا حسن (سوريا)، غسان جواد (لبنان)، ابراهيم الجرادي (سوريا)، جيمس بيرن (بريطانيا)، فراس سليمان (سوريا)، ياسبر برغ (الدنمارك). ومن التشكيليين عصام طنطاوي (الاردن)، تانيا صفي الدين (لبنان)، محمد الوهيبي (فلسطين)، رياض نعمة (العراق)، حسكو حسكو (سوريا)، رؤية عيسى (سوريا)، اسامة دياب (فلسطين)، ريم يسوف (سوريا)، عماد صبري (سوريا). وستقام في المهرجان حفلتان موسيقيتان، الاولى للفنان اللبناني سامي حواط وفرقته، والثانية لفرقة الجاز السورية (فتت لعبت). المهرجان يقام برعاية وزارة الثقافة وتزامنا مع احتفالات القدس عاصمة ثقافية للعام 2009.

Read On 0 comments
5:40 PM
Arts In Lebanon





الشاعر - حسن عبد الله

المؤلفات الشعري




ولد في الخيام – جنوب لبنان ، ونشأ في عائلة مولعة بالادب الشعبي مما ولد لديه حب القصص والاساطير .

بدأ يكتب الشعر في سنوات مبكرة.

تلقى دروسه في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة في بلدته الخيام وتابع تعليمه الجامعي في بيروت حيث لا يزال يعمل ويقيم منذ اكثر من ثلاثين عاماً .

حصل على إجازة في الادب العربي ودرّس مادة الادب لفترة طويلة .

كتب حسن عبد الله للاطفال فصدر له حوالي ستين كتاباً بين شعر ونثر شكلت علامة بارزة في أدب الاطفال في لبنان والعالم العربي .

شارك حسن عبد الله في مهرجانات شعرية محلية وعالمية . كما شارك في ندوات ومؤتمرات أدبية عربية وترجمت مختارات من شعره الى الفرنسية والانكليزية والالمانية والاسبانية والروسية .

حصل على اكثر من جائزة ادبية ، وكُرّم في مهرجان السينما الدولي الحادي عشر للاطفال في القاهرة .

إنقطع عن كتابة الشعر ثمانية عشر عاماً واطل بعدها بمجموعته "راعي الضباب" التي شكلت تطوراً نوعياً في مسيرته الشعرية ، واثارت ، بواقعيتها الحادة ولغتها اليومية المباشرة وأبعادها التعبيرية اهتمام النقاد .

تحولت بعض قصائده للاطفال الى اغنيات بالحان وليد غلميه واحمد قعبور. كما غنى ، من شعره ، مارسيل خليفة .

على عكس التيار السائد في الشعر يميل حسن عبد الله الى الشعر "الواقعي" . ولكنه يعتمد أسلوباً وصفياً مؤثراً سوف يكشف عن العلاقات المقنعة التي تهدد وجودنا الانساني .



تدور معظم قصائد حسن عبد الله حول أجزاء من سيرته الذاتية بين الخيام وصيدا وبيروت . الا ان وقائع هذه السيرة مشحونة بالتأملات التي تعكس مناخ مرحله شكلت تحولاً نوعياً على الصعيدين الثقافي والاجتماعي .

ومن ناحية ثانية تتجاوز السيرة الذاتية في شعر حسن عبد الله سياقها التاريخي لتأخذ منحى درامياً يتشكل في تجربة راهنة ويعبر عن علاقته (علاقة الشاعر) المتأزمة بالواقع .

نشر حسن عبد الله قصائده في عدد من المجلات والصحف الادبية ، كما نشر في مطلع حياته عدداً من القصص القصيرة .

اما اعماله الشعرية فهي :

-أذكر أنني أحببت – دار الفارابي 1972

-الدردارة – دار الفارابي 1981

-راعي الضباب – دار رياض الريس للكتب والنشر 1999 .



المؤلفات


أذكر أنني أحببــت



http://www.8artslebanon.com/index.cfm?
Read On 1 comments
5:39 PM
هل هناك حياة (للقصيدة) بعد «الدردارة»؟

صاحب أحد أعذب الأصوات الشعريّة في جيل السبعينات، يعيش في الهامش مثل «صيّاد الفخّ». حياته كلها تحدث بين مقهيين في بيروت: «كافيه دو باري» نهاراً و»سيتي كافيه» مساءً. الطفولة سبب هذا الشاعر العصفور… الطفولة كلّ أسبابه.

نوال العلي
يظنّ الشاعر حسن عبدالله أنّي أطارده، ألم أصادفه مرتين في الأسبوع نفسه، وكنت قد هاتفته لأطلب موعداً؟ أربكني بسؤاله إن كنت أترصّده، اعتقدتُ بأنّه يمزح، إلّا أنّه كان في منتهى الجديّة حتى خلت أنّي أثرت ريبة الرجل. وأخيراً التقيت «صيّاد الفخ» في مقهى الـ «سيتي كافيه» في الحمرا.

ورغم برد بيروت ومطرها، يجلس عبدالله على طاولة في الخارج، يخلعُ قبعته الكحلية أمام عدسة المصوّر، يسألني عن منظر شعره، فأطلب منه أن يهذبه من جهة اليمين، رغم أنّه لا يحتاج إلى ذلك حقاً، لكنّ سؤاله الطفولي الدافئ اضطرني إلى الإجابة بمنطق المسؤولية وبدفء مماثل.
يروقني أن ألقّبه بـ«صيّاد الفخ» عنوان إحدى قصائده. إذ سمِعته يسترسل في الحديث عن العصافير التي يجيد اصطيادها، أنواعها وألوانها وطباعها.

مروان بو حيدر(مروان بو حيدر)

يستطيع عبدالله أن يتكهّن إلى أي جهة سيحلّق هذا الطائر أو ذاك، يميناً أم يساراً. طائره المفضل هو أبو الحن، ولولا أشجار الخيام وجنائنها، لما كان لأبي الحنّ وجود. هكذا هي الأمور كما يراها الشاعر العصفور: «أذكرُ من حديد الصيف فَخَّ حسن خليل وبأسه المائيّ/ أنا هناكَ في العصفور».
ولولا رحلة الشتاء والصيف في منطقة الخيام، لما قُيِّد لعبدالله أن يكون شاعراً. بفضل تلك الرحلة، عاش طفولةً جنوبيةً لن يكون بعيداً عن الدقة عندما يصفها بالـ«الملحميّة».

كان أهل الخيام ينتقلون صيفاً للعيش في الحقول، لكل عائلة خيمة تنصبها بين الكروم وحول نبع الدردارة، الحياة كلّها كانت تنتقل إلى الخارج. هكذا أتيح للأطفال والمراهقين أن يكونوا خارجين على القانون أيضاً، بالمعنى الحرفي لا المجازي للكلمة. كان عبدالله فرداً في عصابة من المراهقين: لصوص الحدائق والبساتين بقيادة «الماريشال تيتو» المندفعين بهراواتهم، يضربون النواطير ويحاكمون الناس ويحبسون مَن يخرج عن إرادتهم.
وحين يحلّ الشتاء، يعود حسن خليل شاعراً، كما يعي ويذكر نفسه، وكما كتب أولى قصائده وهو بعمر اثني عشر عاماً. عاش في بيئة تهوى الروايات والسير الشعبية التي كان يحفظها عن ظهر قلب، ليرويها لعماته الأميّات، ثم يعيد روايتها لرفاقه.

ومثلما يسمعون أخبار أدباء المهجر يؤسسون لأنفسهم رابطة قلمية، راحوا يقتنون مكتبة ويدخلون في جدل رصين ومعظمهم لم يتجاوز الرابعة عشرة: «لم أتعامل مع نفسي كأديب مثلما تعاملت مع نفسي في تلك الفترة. مع الوقت، ضعف لدي حس الأديب وتميّزه ورسالته».
يفرد عبدالله جل حديثه لاستعادة تلك الأيام... تشعر من نبرة صوته وتوقّد عينيه بأنّها ذهبُ حياته. حماسته تفتر بالتدريج، كلّما ابتعد عن أيام الدردارة... مثلما قلَّ نتاجه الشعري أيضاً بعد الدردارة المكان والقصيدة. ظهرت «الدردارة» في ديوان حمل اسمها سنة 1981، ووضع فيها عبدالله شيطنة شعرية سحرية، جعلت منه في ذلك الوقت أحد نجوم الشعر بحقّ، وخصوصاً تلك المجموعة التي أطلق عليها لاحقاً تسمية «شعراء الجنوب» وضجّت بها الجامعة اللبنانية، وكليّة التربية، في تلك السنوات.

كان قدومه إلى بيروت سنة (1964) انتقالاً حاسماً في حياته، التحق بمعهد إعداد المعلمين، والتقى مدرستين أدبيتين: في الأولى، تعرّف إلى أصحاب مجلة «شعر» الذين أتاحوا له فرصة الاطّلاع على قصيدة النثر والشعر الأوروبي، فأحبّ نيرودا. وفي الثانية، التقى أصحاب «الآداب» وأجواء شعر التفعيلة في العالم العربي فتعلّق ببدر شاكر السيّاب...

وكان يحفظ دواوينه عن ظهر قلب. لكنّه لم يفكّر في نشر قصائده في المجلات والصحف قط، إذ كان يفضّل أن تظهر في كتاب. هكذا، طبع ديوانه الأول أواخر السبعينيات بعنوان «أذكر أنني أحببت»، مجموعة اختار مرسيل خليفة أن يلحّن منها «أجمل الأمهات» و«من أين أدخل في الوطن».
وفي «ثانوية صيدا الرسمية للبنات»، عُيِّن عبدالله معلّماً، حيث التقى صديق عمره مهدي عامل (حسن حمدان) وتزامل مع حمزة عبود وحسن داوود... أمّا ناظرة المدرسة، فكانت يمنى العيد.

ولنا أن نتخيّل مكاناً يجتمع فيه هؤلاء المثقفون معاً. انجذب عبدالله إلى الشيوعية عن طريق الأدب، فقد وجد في الأعمال الروسية العظيمة ما يشبهه، وما هو قريب من تكوينه النفسيّ... لكنه لم ينتسب للحزب بصورة فعلية: «كنّا موجودين ولم يشعر بوجودنا أحد، وخرجنا ولم يشعر أحد بوجودنا أيضاً».

كان عامل يهديه مؤلفاته ممهورة بأربع كلمات «أعرف أنك لن تقرأ الكتاب». وقد يكون مرد ذلك لغة عامل التي يصفها عبدالله بأنها معقّدة وصعبة، بينما كان حديثه عذباً وسلساً. حين اغتيل عامل، أدرك حسن أنّ حياته الآن لم تعد كما كانت، وأن طمأنينته خسرت الكثير من أسبابها. وفي 1977، انقلب مصير الكتابة لدى حسن حين قرر كتابة ستّ قصص للأطفال مستجيباً لدعوة دار «الفتى العربي»، لكنّ القصص ستصدر في النهاية عن سلسلة «جنة الأطفال» في «دار الفارابي».

ومنذ ذلك الوقت، يبدو أنّ شاعرنا وجد نفسه أقرب إلى عالم الطفولة من الكبار، استغرقته كتابة هذا الأدب وتوالت إصداراته. أكثرها شهرة «أنا الألف» التي لحّنها وليد غلمية، وباتت أشهر أغنيات أجيال من الأطفال في العالم العربي.

حتى بات الحس الطريف والفكاهي يميّز قصيدة عبدالله عن كربلائية شعراء الجنوب. ويمكن أن نلمح ذلك في ديوانه الأخير «راعي الضباب»، حيث آثار الكون الطفولي تسبّب تراجع مفردات عالم الكبار.

لم يتزوج حسن خليل عبدالله. يعيش في شقته في رأس بيروت، تفاصيل حياته كلها تحدث ما بين مقهى «كافيه دو باري» نهاراً و«سيتي كافيه» مساءً مع أصحابه الشعراء. البيت له وحده، مكان الأصدقاء في المقهى، فـ«صيّاد الفخ» يؤثر البقاء وحيداً ينصب الكمائن لعصافير حكاياته وأقاصيصه... الطفولة سبب هذا الشاعر العصفور، الطفولة هي كل أسبابه.



5 تواريخ

1964
القدوم إلى بيروت للدراسة في معهد المعلمين

1977
ستّ قصص للأطفال صدرت عن سلسلة «جنة الأطفال» (دار الفارابي)

1981
صدور ديوان «الدردارة» (الفارابي)

1995
كتب المسلسل التلفزيوني «طبيب الغابة» من إنتاج شركة «الذات» في بيروت

2008
قصة وسيناريو فيلم «مازن والنملة» من إخراج برهان علوية وأنتجته قناة «الجزيرة» للأطفال


عدد الأثنين ٢٩ كانون الأول ٢٠٠٨
Read On 0 comments
5:22 PM
حسن عبدالله
راعي الضباب

عمر شبانة

كاتب من الأردن


يكتب حسن عبدالله قصيدته في مناخ شعري دافيء. وحميم فتأتي قصائده وهي على قدر من البساطة والحميمية والقوة والايجاز، يظهر حنكة الشاعر وتجر بته الممتدة في العقود الثلاثة البادئة منذ مطلع السبعينات، كواحدة من أبرز وأهم تجارب السبعينات في الشعر العربي، على قلة ما صدر له من مجموعات شعرية. فالى مجموعته الجديدة "راعي الضباب" لم تصدر له سوى مجوعتين هما "اذكر انني أحببت" و "الدردارة"، ولم نقرأ له سوى القليل من الـ "ستين كتابا للأطفال بين شعر ونثر" كما جاء في ثنية الغلاف الأخير الداخلية وتأتي "راعي الضباب" بعد ما يقارب العشرين عاما على صدور مجموعته الشهيرة "الدردارة". ويمكنني هنا أن أستعير المثل الشعبي "غاب وجاب" ولا أجد سواه ما يعبر عن قيمة هذا الغياب الطويل وحصيلته وما عاد به الشاعر من غيابه وانطوائه على شعره وعدم نشره في صحيفة أو كتاب، باستثناء عدد من القصائد التي كان يقرؤها في الامسيات الشعرية العربية.

وبرغم أن حسن عبدالله انطلق ضمن ما عرف بـ "شعراء الجنوب" الظاهرة التي انطلقت في السبعينات، واطلقت عددا من الشعراء في اطار واحد وان تنوعت الأصوات.. فقد تمايز صوت صاحب "الدردارة"، منذ البدايات بكونه أشد التصاقا بالأرض وباليومي وبالتفاصيل، من دون انفصال عن الهم الوطني والقضايا الجوهرية، بل في سعي الى الارتقاء بكل ما يتناوله من مستوى الخاص الفردي، المحلي الى مستوى العام الانساني.

في "راعي الضباب" يتعمق هذا المسعى ويتكثف الاشتغال عليه وبه ضمن الحد الأعلى من الاحساس بالعالم منظورا اليه من زاوية شديدة الخصوصية، وعبر عين تطيل التحديق في ذات الشاعر وفي كل ما حوله في حاضره كما في ماضيه القريب والبعيد، كما في رؤيته للمقبل من أيام. بهذه الشمولية في النظر والاحساس. وبقار عال من الرغبة في تعرية الذات وتشريحها والسخرية من بؤسها و "بطولاتها"، يأخذنا الشاعر الى عوالم جديدة في النفس البشرية انطلاقا هن الذات في أحوالها. وفي علاقاتها مع "الآخر" وصولا بل عودة الى الذات من خلال الأخر ومراياه.

ابتداء، نحن أمام راع يجري تعريفه بالمضاف اليه "الضباب" كأنما التعريف هنا من أجل مزيد من الغموض والتفكير. فراعي الضباب لابد أن يكون من جنسه وفي مثل هلاميته، وقتامته أو شفافيته، وانتفاخه وتنفجه، وان يكون راعيا بكل ما في المفردة من محمولات. وراعي الضباب شخص حكيم ومتأمل وقوي.. متين ومجرب، مثلما هو شخص حالم وشرير وساخر ومحب للحياة ولا يخشى الموت، شخص على قدر من التناقضات يليق بمن يرعى قطيع ضباب.

وأول ما يواجهنا به الراعي الضبابي هو ذلك النور الذي يضيء الحياة ويكشف "ما ليس مرئيا" من العناصر (الحب، القوة، النسمة) التي تجعل الانسان يواصل العيش، فما الذي يبقي الفتى حيا؟" انه النور الذي "يرفع الظلمات عنا وهو مستور"، والقوة التي "ترافقنا وتدركنا ونحن على فم الهوة"، والحب الذي "يفاجئنا بدفء غير منتظر اذا ما أقفر القلب" وهو النسمة التي تهب دائما "على جروح الروح حتى تنجلي الغمة".. وهو اذن قوة - قوى خفية لا يدركها العقل ولا تلمسها اليدان، بل يحدسها الوعي ويعيش بها. هذه واحدة من أدوات الشعر في التساؤل والبحث فهو لا يقرر بل يتساءل عن النجم المستور وعن القوة الخفية والنسمة والحب، عن ماهياتها، مصدرها الفاعل.. ورغم ما يبدو من تفاؤل، فإن رائحة التشاؤم والخوف من غياب هذه القوى الخفية هو ما يختفى في عمق هذه التساؤلات.

وهذا نمط من التساؤلات والأسئلة الوجودية ذات البعد الفلسفي التي تنطوي عليها المجموعة. وثمة أنماط وأشكال مختلفة ومتعددة، بعضها وجودي يكبس علاقات ووقائع يومية وبعضها معيشي / يومي يسعى الى أن يكون في جوهر الحياة، لكنها جميعا أسئلة الشاعر ولفته وروحه المتدفقة شفافية واكتئابا في آن، أسئلة تتخذ لفة مرحة وبسيطة كما لو أنها لغة طفولية تحرف الكلمة عن مدلولها بوعي شعري كامن وقادم من الشعور الجمعي بالأشياء وقائم على التحريف والحذف والتداعيات والتأملات والتأملات... الخ.

في اللغة البسيطة المرحة حد الكوميديا السوداء يسوغ الشاعر بناءات بنكهة شعرية جديدة وفريدة، من خصائصها أنها تغوص في الذات وتسخر منها تلك السخرية اللاذعة والمريرة، كما في قصيدة "مر عام" التي "تحكي" قصة رجل يعيش وحدته وعزلته "وحدتي قلعتي (...) جنتي"، بعد علاقة مع امرأة مشكلة، وبعد مرور عام على انقطاع العلاقة وترتيب عالمه الجديد إذ "كل شيء هنا/ حيث لا شيء الا أنا لم سائر بانتظام"، يخاطب تلك المرأة من عزلته وعالم أسراره المقدسة معلنا "أي امرأة،/تتقدم من جنتي هذه / سأواجهها بالمسدس ".

هنا تتكثف وتحفر كل عناصر المأساة ومشاعر المرارة حين تغدو الوحدة قلعة، ويغدو الانسان "شيئا"، وحين يستطيع أن يعلن ذلك في صورة معكوسة تماما، حيث السعادة في الوحدة، وفي أن "لا أحب / لا أحب" يكمن الجمود كله الذي معه يتمنى المرء لو أنه حجز.. انها السخرية الفكاهية وان بكلمات مألوفة، فلا كلمات غريبة هنا، بل تراكيب لغوية طازجة ومن واقع التجربة غالبا وتنهل من لفة تراثية حينا. فهو بعد رحيلها أحدث ثورة "في الاثاث" وغير معالم البيت وهو حين تختار بديلا له "أخف الرجال" ويصرخ بها غاضبا "أهذا غريمي؟" يستنجد بصاحبه "أسعفوني بكأسي دفاقا/ وعجل الى نجدتي يا نديمي". وما بين لفة الشارع المنقاة والمشذبة ولفة المثقف المتين تظل الجملة الشعرية ذات وهج ونكهة خاصين.

وفي المجموعة رؤية للزمان والمكان في حركة كل منهما وفي لقائهما، عبر التذكر حينا، وحينا بالرؤية الواهنة، وفي ذلك كل تصوير لحركة الحياة ذات الاتجاه الدائري الذي تتكرر فيه الأشياء وتعود الى حالها، ولا أحد "يريد أن يرى/ بأن ما يظنه سعيا الى الامام / ليس غير قهقرى"، فهناك "على الطريق" دائما الأشخاص الثلاثة: رجل سبقني، ورجل سبقني، والانا المتكلم في الوسط. وهنا لعبة على الثنائيات أيضا (سبقني /لحقني). و(علبة فارغة من المسكنات / علبة فارغة من المنبهات). وعقل / حواس (لعبت بعقله حواسه).

والزمان يأتي في صور عدة مثل "انتظام الكواكب في مداراتها" وربط هذا الانتظام بـ "مواعيد أخذ الحقن" وقد تأتي الصورة ممثلة لمرور الليل والنهار أو في صيغة "كنا معا، في سكينة زان الزمان" أو في شكل تحسر على فقدان ما مثل "وكان في المكان ماء" يظهر تحولات المكان مع مرور الزمن... الخ.

وليس الزمن في احساس الشاعر، ومن ثم في شعره، بلا تأثير وهو أيضا ليس زمنا مجردا أو مطلقا، فهو شديد التأثير كما أنه شيء نلمسه. ففي شهر آب، حيث "الشمس تهاجم بيروت / وبيتي تحديدا.." يصحو رجل على فكرة أن يقتل جاره. وفي تشرين الأول (أكتوبر) تتأرجح العواطف بين الأصفر والبني، ويتمنى الشخص أن تدخل الشمس "وتجلس فوق الهرة" وكثيرا ما يستخدم الشاعر تلك العبارات الدالة على مرور الزمن. وفي أطرف الحالات، يلحظ وجود من يلعبون بحياته وموته، وان السيرة ستطول، فيطلب من امراته أن ترى أن كان ثمة من "يبيعون في الصيدلية صبرا جميلا.." أو يرى كيف يمكن أن "يحدث أحيانا أن يحدث ما لا يمكن أن يحدث"، وتتكرر "أحيانا" هذه في مواقع شتى من أطرفها حديثه عن السهل الذي "يحد اسرائيل - أحيانا - من الشمال.." ولابد من أن أحيانا هذه تخص اسرائيل ولا تخص الفعل يحد، لأن اسرائيل - كما يبدو في نظر الشاعر - ليست قابلة للوصف بـ "دائما" لأنها طارئة، وحين لا تكون اسرائيل فإنها تعود فلسطين (هل نحملها أكثر مما يقصد الشاعر؟). وكما رأينا تحولات المكان ومسخه، نسمع ذكريات المكان ونشم روائحه، خصوصا في "ذكرى من صيدا" و "صياد الفخ" الذي يرى نفسه ابن عشر سنون" ويمشي "بين صفي تين" في "سهل مرجعيون / تحت جنون شمس الصيف أو "على التل" أو "من وراء التل /يأتي أسر الروعة / آذان الظهر في الضيعة". ومن مشاهد صيدا الواهنة يقف الشاعر يشير لامرأة الى:

هناك تحت ذلك البناء

ذي الطوابق العشرين

كنتم تسكنون..

...

لاحظي

هناك أيضا

أكل الفضاء

بالاسمنت

وأمحت

حدائق الليمون

هذا مقطع من تحولات المكان لجهة قتل حميمية وانسانية ومظاهر الحياة الطبيعية فيه، وثمة مقاطع عن تحولات الانسان يرسم فيها الشاعر حال الواقع ويصف المشاعر ويغوص في أعماق النفس البشرية فيرى / يرينا "الناس يركضون" /لا حرارة / سوى حرارة الشراء والبيع / ولا صوت / سوى صدى ارتطام المال بالرجال /والرجال بالمال" ويعود للمقارنة مع صيدا التي نعرفها أين هاو؟ المرفأ القديم / أين الزورق الذي يخصنا؟/ وأين مهدي؟ قبطاننا الى بلاد ما وراء

الشك واليقين.." وليري بعين الطفل الذي غادره / غدره طريق البساتين والكهف والتلال.. وليعلن أن "أجمل القصائد التي كتبت / لم تكن سوى صدى / لرنة الحياة هاهنا.."..الخ.

نبرة الأسى الممزوجة بنبرة السخرية السوداء، هذه تطغى على حيز واسع من شعر هذه المجموعة، حتى أن الشاعر يقف ذاهلا أمام ما يحدث ولا يجد ما يفعله فيعلن يائسا "سميت نفسي فرقة الدفاع عن ضريح جدي" الذي قد يكون آخر ما تبقى من عالمه القديم، من موروثه وذاكرته وكل ما يوحي به الجد والضريح.

وتشف السخرية أحيانا فنرى أمامنا شخصا رومانسيا يتوهم أو يتخيل كيف يمكن أن يقترب من حفنة عصافير وحين يمسك بها يسألها لماذا لم تهرب، فتجيبه "عجبا/أو نهرب من شخص يتخيل". أو نرى الشخص يدخل المقهى فيلمح ابتسامة على شفتي امرأة تجلس مع رجل يكبرها كثيرا، ويعتقد أنها ابتسمت له لكنه لا يعرف كيف يتواصل معها ولو لمجرد أن يتأكد أن البسمة له. ليسأل النادل عنها فيخبره أنه لا يعرفها ولم يرها من قبل، ثم تقوم ويقوم الشخص الجالس معها ويذهبان دون أي التفاتة لنرى "ما أوحش هذا العالم !".

في هذه القصائد ينمي الشاعر احساسنا بوجود عالم أشبه بالعالم الروائي، فالشخص الذي تسجل القصائد أحواله بأسلوب يجمع السود والحوار والتداعي، هو نفسه بملامح لا تتغير هو نفسه "بطل" قصيدة "عمل" الذي يتهمه مدير الشركة بأنه وصفه بالنذل فينكر، ويصر المدير و.. يهجم عليه ويضربه "بمجسم احدى القلاع القديمة" ويترك العمل، ويذهب ليدعو أصدقاءه للاحتفال بالنجاة من "الشركة" ويعود الى الكسل فيدعوه بـ "حبيبي" وليكتشف أن القيم قد تغيرت، إذ لم يعد شرفا أن يكد الانسان ويتعب مادام قد،أجمع المال / لا أمل بفساد أقل / وقبح أقل" وما دامت أدوات النجاح "الغباء/البغاء/الرياء/ الدهاء/ الدجل..الخ.

ويفيد الشاعر من كتابة السيناريو، فيكتب مشاهد يستخدم فيها التصوير والقطع في عبارات مثل "يستطيع المشاهد أن يلمح الطفل.." أو يخاطب امرأة القصيدة "ها أنت في مطبخ البيت.. تسترجعين مشاعر حب قديم.. تبتسمين ابتسامة شخص حزين / بضع ثوان /لتنتبهي فجأة لاضطراب غطاء الوعاء على الغاز.. تقطعين بحزم خيوط الحنين.." ويصور الشاعر، كما المصور السينمائي مشاهد ولقطات تجمع عناصر عدة (شمس شرسة، أثار خطي دبابات، سنبلة، شجيرة ورد) كي يصل الى الهدف (جزء من ساق الرجل اليسرى للشخص المقعد).

ويدخل الشاعر في القصيدة أحيانا ليقول للقاريء في قصيدة "شمس الخيام" كم احتاج من مواد كي يكتب قصيدته.

فليقدر القراء

أي ليل

من ليالي النفس

أي غضب وصخب وراء

هذه القصيدة

الهادئة الانشاء"

وفي هذه القصيدة أيضا يقارن بين شمس قريته "الخيام" و "هذه الشمس التي تصلنا منهكة عرجاء/ عبر بناء راكب على بناء". ويقارن بين فضاء سهل مرجعيون و"هذي الفضيئات الفائرات كالثقوب في احياء شارع الحمراء"، فلا يجد مجالا للمقارنة. فهذه الأخيرة ليست سوى "فضيئات".. أي تصغير جريء هذا!

وفي قصيدة "قبر حرب"، الأطول والأعتق بين قصائد المجموعة، ما يشبه سيرة روائية لشخص يدعى حرب، سيرة تحفل بالمكان والزمان ادهنا حيث تحدث هذه القصيدة، فالقصيدة تحدث اذن وثمة "أجزاء يوم / هو السبت في أغلب الظن.." وثمة "شخص بكامله" قد تهدم و"ارتفعت سترة فارغة" و "امرأة معتمة" في ملابس الحداد كما يمكن أن نقدر، حزنا على الشخص المتهدم.. والزمن يبدو أيضا في ذمة الساعة الهائلة في يد القتيل التي أخذت قبضة من غبار النهار وعادت الى عتمة الطين" وثمة مدينة تحمل "سبتها المترمد" لتستقبل يوم "أحد هاديء" حيث الناس يتساءلون عن الشخص ويسألون "الراوي" عما يحمل في يده، فيقول لهم انه روح حرب، وحرب "شهيدي المجيد"، وحرب "قبل أن ينقبر كان حربا" ولكنه بعد انقباره "صار لا شيء.. لا تضعوا فيه معنى" دعوه "لقد مات"، فهل مات بأمر من أحد أو جهة ما...؟

ثمة نفس سريالي يسري في عروق القصيدة / الحكاية وتأمل للحياة والموت بوصفهما يتجاوران ويتتابعان فبعد أن أحس قبر حرب بالضجر، ومضى عموه وانقضى.. جاء أخوه الصغير لتستمر الحياة ويتكرر الموت والانبعاث.

هذا كله وسواه من عناصر وأدوات وأساليب بناء قصيدة ذات ايقاعات تكون بألوان المشهد، وتصبغ بأصباغ الحال المعبر عنها وتبنى بلغة رشيقة عادية ومألوفة مما في حياتنا اليومية. هذا ما يمنح قصيدة حسن عبدالله ومن ثم تجربته، قدرا عاليا من الفرادة والتمايز في الشعر العربي الحديث كله، أمام الكم الهائل الذي تقذفه في وجوهنا مطابع ودور نشر تنشو ما هب ودب مما يكتب عليه "إنه شعر"!

وأخيرا أعترف أنني، منذ سنين، لم أقرأ تجربة شعرية ترقى الى ما بلفته مجموعة "راعي الضباب" هذه من ارتقاء بالشعر واستعادة لمكانته المرموقة، وربما كنت قرأت قصيدة هنا وقصيدة هناك أما كمجموعة لها مواصفات الكتاب الشعري فهذا ما لم يحدث إلا مع مجموعة الشاعر حسن عبدالله.
Read On 0 comments

Followers

You can replace this text by going to "Layout" and then "Page Elements" section. Edit " About "